شهدت السنوات الأربع الماضية، أي منذ فوز "دونالد ترامب" مرشح الحزب الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة الامريكية، على منافسته "هيلاري كلينتون"، مرشحة الحزب الديمقراطي، احداث مثيرة وخطيرة ومتعدددة هددت اكثر من منطقة بنشوب حرب. وقد أعادت احداث السنوات الماضية صياغة المعادلات السياسية على الصعيد الدولي. فمنذ تاريخ (20 يناير 2017)، ومع اللحظات الأولى لدخول "ترامب" البيت الأبيض، كانت هناك مروحة من القرارات اتخذتها الإدارة الامريكية الجديدة، وأدت الى احداث عاصفة سياسية، ضربت اكثر من عاصمة عالمية وإقليمية، دون الاخذ بعين الاعتبار، المخاطر المترتبة على هذه القرارات، التي وصفها مراقبون بقرارات متهورة نابعة من الشخصية المتهورة والمجنونة للرئيس نفسه. وهي قرارات وضعت العالم بأسره على فوهة بركان لاهب، وعلى شفير حرب في اكثر من منطقة في العالم.

شكلت تلك السياسات السمات الأساسية للمرحلة "الترامبية" الجديدة، كما اقر بها مقربون من الادارة، بإعادة صياغة النظام السياسي العالمي، في صفوف التبعية الكاملة لإرادة اليمين الأمريكي وتحالفه من اليمين المسيحي المتصهين من طائفة الانيجليين، وذلك من خلال ممارسة كل أشكال عنجهية "الرجل الأبيض"، في اضطهاد الشعوب وقهرها، والسطو على ثرواتها، وسرقة حقها في اختيار ممثليها، وفرض العقوبات عليها، وتجويعها بهدف السيطرة عليها، وتحويلها الى مستعمرات جديدة تعيد احياء نماذج الحقبة الفاشية، التي دفع العالم ثمنا باهظا للتخلص منها، لصالح القيم الإنسانية، التي حددت آليات التعاطي بين الدول وفقا لمنظومة الشرعية الدولية.

فمن الانسحاب من البرنامج النووي الإيراني الذي وقع بتاريخ (14 تموز/يوليو 2015)، الى فرض العقوبات الاقتصادية على الصين، وروسيا، وكوريا الديمقراطية، وسوريا، وكوبا وفنزويلا والعراق.. الى حروب اقتصادية على حلفاء امريكا نفسها، الى طرح رؤية (ترامب- نتنياهو) التي اعلن عن شقها السياسي بتاريخ (28 يناير\كانون الثاني 2020)، والتي تهدف صراحة وبلا مواربة الى تصفية القضية الفلسطينية، والغاء جميع الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، والانقلاب على جميع القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، وصولا الى دعم الانقلاب العسكري الغير شرعي في باوليفيا، وهي اجراءات وسياسات جسدت ممارسات الإدارة الجديدة – في وقتها - للبيت الأبيض، وعبرت عن الوجه الحقيقي للسياسة الامريكية، التي تمثل أعتى قوة امبريالية، وأكثرها اجراما واستكبارا في هذا العالم.

فبتاريخ (20 أكتوبر 2019)، جرت الانتخابات الرئاسية في بوليفيا، والتي نتج عنها فوز مشرح حزب "الحركة من اجل الاشتراكية" وأمينه العام "أيفو موراليس" الذي حصد 47.6% من أصوات البوليفيين مقابل 36.5% لمنافسه كارلوس ميسا، وكانت قد أعلنت المحكمة العليا للانتخابات فوز "موراليس" بعد إتمام فرز 99.8% من الأصوات، وقد شكل فوز احد الرموز اليسارية في اميركا اللاتينية، والعدو اللدود للولايات المتحدة الامريكية وسياساتها العدوانية حفيظة الإدارة الامريكية برئاسة "ترامب"، مما دفعها لتقديم الدعم لتيارات يمينية داخل الجيش البوليفي، بعد ترويج اعلامي ممنهج شكك في مصداقية الانتخابات، مما أدى الى انقلاب عسكري على الشرعية البوليفية وإرادة الشعب البوليفي، وتنصيب "جنين أنييس" عضو في البرلمان البوليفي رئيسا مؤقتا للبلاد، وخروج "أيفو موراليس" ولجوئه الى الارجنتين، في تدخل سافر ووضيع في شؤون البلاد الداخلية، وفي ترجمة مبكرة للعقلية الاجرامية، ولسياسة الرعونة الامريكية، التي قامت منذ البداية على جماجم الملايين من الهنود الحمر "السكان الأصليين".

مثل هذا التدخل السافر في شؤون بوليفيا الداخلية، والانقلاب العسكري على الشرعية الشعبية التي نالها الرئيس "موراليس"، بداية معركة داخلية بين الإرادة الشعبية البوليفية التي تراهن على قواها الذاتية، وترفض الارتهان للقوى الخارجية، وتسليم ثروات البلاد للإمبريالية الامريكية ورفض الخضوع للاملاءات التي تصب في خانة خدمة المصالح الامريكية، وبين معسكر الانهزاميين والمتواطئين مع الخارج، اللاهثين الى كسب الامتيازات والمناصب السياسية بدعم خارجي، على حساب كرامة وطنهم وحرية شعبهم واستقلالهم في دولتهم الوطنية، في محاولة لتكرار ذات تجربة الحكم التي مثلها "فولغينسيو باتيستا" الديكتاتور الكوبي الذي دعم من الإدارة الامريكية في الفترة التي امتدت بين ( 10 أكتوبر 1940 – 10 أكتوبر 1944)، والتي شكلت في حينها أسوء مراحل الحكم الديكتاتوري الذي مر على الجزيرة الكوبية، التي نفضت عملاء البيت الأبيض، واستعادة حريتها وكرامتها الوطنية بإرادة الشعب الكوبي وثورته الشعبية التي قادها الزعيم الثوري "فيديل كاسترو"(2 ديسمبر 1976 – 24 فبراير 2008)، الذي صنع معادلة الكرامة الذهبية، ورسخها كمنهجا ثوريا، مازال الشعب الكوبي ينهل من مفاهيمها ويسير على خطاها، ممثلا هذا الصمود الأسطوري امام "الرجل الأبيض".

لم يستكن الشعب البوليفي، الذي اعتاد رفع راية الكرامة ورفض الخنوع والذل، وبذل التضحيات في سبيل الحفاظ على الاستقلال الوطني، المحمي بالإرادة الشعبية والممارسة الديمقراطية، والذي يمثل استمرار للنهج الثوري للرئيس "موراليس"، بل سارع الى انجاز فهم جماعي واعي، لنتائج الانقلاب العسكري التي شهدتها البلاد، وللنتائج الكارثية، التي ستترتب على تسليم بوليفيا، الى حفنة العملاء الذين رهنوا مصير بلادهم للدولار الأمريكي، وهذا ما أنتج انتصارا جديدا، وضربة تحت الحزام للإدارة الامريكية وعملائها مع الإعلان الرسمي عن فوز مرشح حزب "الحركة من اجل الاشتراكية" ونائب الأمين العام للحزب "لويس آرسي" في الانتخابات الرئاسية التي جرت بتاريخ (18 أكتوبر 2020)، والتي افضت الى عودة قوية محصنة بالإرادة الشعبية لليسار البوليفي، الذي عملت الإدارة الامريكية وعملائها على اقصائه وابعاده عن المشهد السياسي والشعبي للبلاد.

يمثل الانتصار السياسي والشعبي الكبير لليسار البوليفي، والذي أدى الى عودة الرئيس "ايفو موراليس" الى بلده بوليفيا، محميا بجماهير غفيرة، خرجت الى الساحات العامة لاستقبال أحد القادة البوليفيين من السكان الأصليين، الذين يمثلوا بملامحهم السمراء، حضارة الشعب وتاريخه، ومستقبله الواعد، رسالة قوية ومهمة بأن الإرادة الشعبية، المحصنة بالفكر والانتماء الوطني، والرافضة للخنوع والذل، هي الضامن الرئيسي، وهي الحصن المنيع والصخرة التي تتحطم عليها جميع المؤامرات الاجرامية التي تقودها الولايات المتحدة الامريكية، ضد شعوب العالم الحرة والمناضلة،.

سقطت "جنين" وهزم "ترامب" وعاد "موراليس" منتصرا بإرادة شعبه، الذي أبى الا ان يسطر اعظم ملاحم الدفاع عن كرامته وحريته واستقلاله الوطني، والذي شكل للقوى المناضلة حصانا رابحا، أصاب الرهان عليه، ومثالا يحتذى به لكافة الشعوب التي تسعى الى نفض غبار العملاء والتابعين عن كاهلها، واستعادة المبادرة الميدانية في فرض الامر الواقع، فالرهان كان وسيبقى دائما على الشعوب الحرة، التي تناضل من اجل كرامتها واستقلالها، بوجه جميع المشاريع التي تقودها الإمبريالية واذنابها الصهيونية والرجعية.
calendar_month15/11/2020 09:15 am